برز خلال العقد الماضي، مع اندلاع ما يُسمى بـ"الثورات العربية"، ارتفاع معدلات العنف والجريمة، وخاصة حوادث اختطاف المسؤولين والمواطنين والأجانب، في دول الأزمات بمنطقة الشرق الأوسط، والتي غالباً ما تكون مدفوعة بأغراض سياسية أو مالية. وعلى مدار الأشهر القليلة الماضية، لُوحظ تصاعد عمليات اختطاف المسؤولين والشخصيات العامة والأجانب في عدد من تلك الدول، والتي جاءت في معظمها في إطار التوترات والصراعات الداخلية، وهشاشة الأوضاع الأمنية في البعض منها. ويستهدف هذا التحليل إبراز مؤشرات تلك الظاهرة على مستوى دول الأزمات والصراعات بالإقليم التي تجمع بيئاتها سمات مشتركة قد تُحفز عمليات الاختطاف، مع توضيح أهدافها، ودوافعها.
معاناة إقليمية:
تشهد العديد من دول الأزمات في الشرق الأوسط حضوراً ملحوظاً لظاهرة عمليات الاختطاف بشكل عام للمواطنين والأجانب؛ لأغراض طلب الفدية تارة، والضغط السياسي تارة أخرى. وفي ظل حالة التداعي والانهيار التي شهدتها مؤسسات الدولة الوطنية، وخاصة المؤسسات الأمنية في تلك الدول، تفشت هذه الظاهرة، واتسع نطاقها ليشمل المسؤولين المحليين والدوليين؛ وذلك لأغراض وأهداف متباينة. ويمكن استعراض أبرز مؤشرات تلك الظاهرة في دول الأزمات بالإقليم خلال الأشهر والأسابيع القليلة الماضية، على النحو التالي:
1- ليبيا: تعاني الدولة الليبية من حالة انقسام داخلي وصراع بين مؤسساتها في إطار معسكري الشرق والغرب، فضلاً عن التركيبة المجتمعية القبلية، وانتشار المليشيات والتنظيمات المسلحة من خارج الدولة، وهو ما جعلها تأتي في مقدمة دول الأزمات التي شهدت حوادث اختطاف متكررة لعدد من المسؤولين خلال الفترة القصيرة الماضية، والتي قامت بمعظمها التشكيلات والمليشيات في إطار استعراضي للقوة، وفرض الضغط على الخصوم.
فعلى سبيل المثال، تم اختطاف مدير عام شركة النقل البحري، خالد التواتي، يوم 13 أغسطس 2023، من منطقة غوط الشعال في طرابلس، الأمر الذي أدى إلى إعلان الشركة الدخول في اعتصام مفتوح وتجميد النشاط حال استمرار ما وصفته بـ"الإخفاء القسري" للمدير التنفيذي، وذلك قبل أن يتم إطلاق سراحه في 18 أغسطس. وسبقت هذه الواقعة، عملية اختطاف تعرّض لها فرج بومطاري، وزير المالية في حكومة الوفاق الوطني السابقة، في شهر يوليو الماضي، وأُطلق سراحه بعد ضغوط مارستها قبيلته "أزوية" على السلطة في طرابلس.
وكان لمثل هذه العمليات تأثيرها الواضح في الاستقرار وعمل المرافق الاستراتيجية مثل مؤسسات النفط التي تسهم بالنصيب الأكبر في الدخل القومي لليبيا. إذ أدى اختطاف فرج بومطاري، مثلاً، إلى إيقاف الإنتاج في حقل الفيل النفطي، وهددت قبيلة "أزوية" بإغلاق المنشآت النفطية حتى إطلاق سراحه.
2- اليمن: يعاني اليمن من تكرار حوادث الاختطاف وخاصة الأجانب، وفي هذا الإطار أكد وزير الشؤون القانونية وحقوق الإنسان اليمني، أحمد عرمان، يوم 21 أغسطس 2023، أن مليشيا الحوثيين تحتجز منذ نوفمبر 2021 اثنين من الموظفين الأمميين العاملين بالمجال الإنساني، أحدهما موظف في مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، والآخر في منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسف". وسبق أن أعلن منسق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة في اليمن، ديفيد غريسلي، يوم 11 أغسطس، أنه تم الإفراج عن 5 من موظفي الأمم المتحدة الذين اُختطفوا من جانب مسلحين يُعتقد أنهم على صلة بتنظيم القاعدة في محافظة أبين جنوب اليمن في فبراير 2022.
3- العراق: تصاعدت معدلات حوادث الاختطاف في العراق إلى مستوى غير مسبوق، حيث صارت هذه الظاهرة بمثابة تجارة رائجة تدر عوائد مرتفعة نظير "الفدية" المطلوبة من أهل المخطوفين، وذلك خلال الفترة التي أعقبت الغزو الأمريكي عام 2003، وانهيار المؤسسات الأمنية، ثم بعد ذلك مع ظهور تنظيم داعش الإرهابي وسيطرته على مساحات واسعة من العراق عام 2014.
وخلال الأشهر الماضية من عام 2023، شهد العراق واقعتي اختطاف بارزتين؛ إحداهما كانت في فبراير الماضي، حيث اختطفت مجموعة مسلحة الناشط البيئي العراقي البارز جاسم الأسدي، رئيس منظمة طبيعة أهوار العراق، والذي أُطلق سراحه بعد الواقعة بأسبوعين، دون أن يتم توضيح تفاصيل حول أسباب اختطافه وكيفية تحريره. والواقعة الأخرى تمثلت في اختطاف باحثة إسرائيلية روسية تُدعى إليزابيت تسوركوف، حيث تم الإعلان عنها في يوليو الماضي. وتشير بعض التقارير إلى تورط كتائب حزب الله، أحد فصائل قوات الحشد الشعبي، في اختطافها، وهو ما أكده مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو في تعقيبه على الواقعة.
4- سوريا: تشترك سوريا مع الدول الثلاث السابقة في ظروف البيئة المُحفزة لتصاعد مؤشرات عمليات الاختطاف التي برزت بشكل واضح في أعقاب اندلاع الاحتجاجات السورية عام 2011، خاصة مع تصاعد موجات العنف وتسليح المعارضة وانخراط العديد من المليشيات والتنظيمات المسلحة في هذا الصراع. وهنا تجدر الإشارة إلى أن محافظة درعا والجنوب السوري بشكل عام، وخاصة المناطق التي تسيطر عليها المجموعات التابعة لحزب الله اللبناني، تحولت إلى إحدى البؤر التي تصاعدت فيها حوادث الخطف، خلال الشهور الماضية، حيث تعرض مدير ناحية الجيزة بريف درعا الشرقي التابعة للنظام السوري، المقدم يوسف الضاحي، للاختطاف في 27 ديسمبر 2022، من أجل الضغط على جهاز الأمن الجنائي بدرعا لإطلاق سراح شابين.
ووفقاً لتقرير نشره المرصد السوري لحقوق الإنسان حول حالات الاختطاف عام 2022، فقد تعرض 298 شخصاً للاختطاف بينهم 18 سيدة، و59 طفلاً. كما وثقت منظمات حقوقية 142 حالة اختطاف في سوريا، بينهم 3 سيدات و7 أطفال، خلال الربع الأول من العام الجاري.
ويتعرض الأجانب، وخاصة الأردنيون، للاختطاف في سوريا، إذ تسجل وزارة الخارجية الأردنية منذ سنوات عشرات الحالات لمواطنين فُقدوا هناك وتم استعادة بعضهم والإفراج عنهم، فيما لا يزال مصير آخرين مجهولاً. وفي مطلع العام الحالي، استعاد الأردن المواطن عبدالكريم قطيش الفاعوري بعد نحو أسبوعين من اختطافه في سوريا. فيما كشف موقع "أخبار الأردن" أن مواطنين أردنيين ذهبا للسياحة في سوريا خلال عيد الأضحى الماضي، لكنهما اختفيا بعد ذلك وانقطع الاتصال بهما، فيما رجح أقاربهما أن يكونا قد تعرضا للاختطاف.
بيئة خطرة:
تعكس عمليات اختطاف المسؤولين والشخصيات العامة وكذلك الأجانب في دول الصراعات والأزمات بالإقليم، جملة من المتغيرات التي هيأت البيئة لتزايد مثل هذه العمليات، ومن أبرزها الآتي:
1- مركزية المتغير القبلي في مقابل تراجع دور الدولة: كان للحضور القبلي الواضح في التركيبة المجتمعية في دول الأزمات مثل ليبيا واليمن، ونفوذه وتأثيره بفعل السيطرة العسكرية وامتلاكه أدوات القوة؛ دور أحياناً في عمليات الاختطاف التي نفذ عدداً منها قبائل تعارضت مصالحها مع مؤسسات الدولة، ولجأت إلى آلية الاختطاف كأداة للضغط على الدولة من أجل تأمين مصالحها وإضعاف دور الدولة في نطاق الحدود التي تتداخل مع مساحات نفوذها.
2- التدهور الأمني وهشاشة الأوضاع الداخلية: خلّفت حالة السيولة الأمنية التي شهدتها دول الأزمات في أعقاب أحداث عام 2011، وهي الدول التي كانت تُعاني بالأساس من أزمات هيكلية ارتبطت بالدور الوظيفي للدولة فيما يتعلق بتحقيق الأمن الداخلي؛ تداعيات وخيمة على حالة الانقسام الداخلي لهذه الدول وانهيار مؤسساتها الأمنية، في مقابل انتشار المليشيات والتنظيمات المسلحة وسيطرتها على أجزاء واسعة من الأراضي، فضلاً عن تردي الأوضاع الاقتصادية، وهو ما ساعد بدوره في انتشار أنشطة تنظيمات الجريمة المنظمة التي تعتمد على ممارسة الأنشطة غير المشروعة بهدف التربح، ومن أبرزها عمليات الاختطاف والاتجار بالبشر والمخدرات.. إلخ. فعلى سبيل المثال، أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان، في مايو الماضي، بأن أهالي مدينة تلبيسة بريف حمص وسط سوريا أكدوا أن جميع العاملين بترويج وبيع المخدرات هم من الأطراف المحسوبة على حزب الله اللبناني.
3- الانقسامات الداخلية وصراع أجنحة السلطة: يبرز هذا المتغير في العديد من دول الأزمات، حيث أدت حالة الاستقطاب التي عززتها أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها هذه الدول على مدار العقد الماضي، إلى تحفيز الانقسام الداخلي وعسكرته نتيجة انتشار السلاح. وبالتالي، تتجه الأطراف المُتحاربة وتنظيماتها إلى تنفيذ عمليات اختطاف مسؤولين محسوبين على الأطراف الأخرى، والتي جاءت معظمها مدفوعة بغرض استعراض القوة وفرض السيطرة والردع.
وهذا ما يبرز بشكل واضح في الحالة الليبية التي شهدت أخيراً تصاعداً في عمليات الاختطاف والاختفاء القسري - بحسب توصيف أهالي المخطوفين - لبعض المسؤولين المحسوبين على المؤسسات المستقطبة ما بين معسكر الشرق والغرب، وبداخل المعسكر الواحد ذاته. كما برز هذا المتغير في كل من الحالة السورية بين قوات النظام السوري وقوات المعارضة من المليشيات المسلحة، والحالة اليمنية بين المليشيا الحوثية والحكومة الشرعية.
4- تصاعد دور التنظيمات والمجموعات المسلحة: أدى تدهور الحالة الأمنية وكثافة التدخلات الدولية والإقليمية لدعم بعض المجموعات المسلحة في دول الأزمات بالإقليم، فضلاً عن نشاط التنظيمات الإرهابية التي تجد في هذه البيئات الرخوة مناخاً جيداً لنشاطها؛ إلى تصاعد دور التنظيمات المسلحة في مقابل تراجع أدوار المؤسسات الأمنية الوطنية، بالإضافة إلى الاتجاه لتأسيس بعض الشركات الأمنية الخاصة المحلية والأجنبية لتأمين مصالح القوى المتدخلة. وفي سبيل تعزيز الموارد المالية اللازمة لأنشطة تلك التنظيمات، تلجأ إلى ممارسة الأنشطة غير المشروعة كعمليات الاختطاف، وهو ما تؤكده العديد من التقارير الاستقصائية.
إعادة بناء الدولة:
مُجمل القول، تعكس مؤشرات تصاعد ظاهرة الاختطاف المُشار إليها سلفاً، عوارض الأزمات الهيكلية التي تواجهها دول الصراعات في الإقليم؛ نتيجة مهددات بقاء الدولة الوطنية ومؤسساتها، ارتباطاً بحالة السيولة الأمنية، وانتشار المليشيات والتنظيمات المسلحة التي تقاوم عمليات الإصلاح السياسي لإعادة ترميم مؤسسات الدولة، فضلاً عن التركيبة المجتمعية القبلية الرافضة أحياناً لشكل الدولة ونفوذها الذي يقلص من نفوذ المكون القبلي وسيطرته التقليدية داخل بعض الدول.
وتلك عوامل قد تؤدي إلى انتشار الممارسات التي تحدث خارج نطاق القانون مثل عمليات الاختطاف وغيرها من أنشطة الجريمة المنظمة كتجارة المخدرات والسلاح. وبالتالي، فإن الرهان في هذه المرحلة الحرجة التي تواجهها تلك الدول على مواجهة مثل هذه الممارسات يكون ابتداءً بإصلاح مؤسسات الدولة واستعادة سيطرتها على كامل أراضيها، ونزع السلاح من المليشيات، وذلك من خلال توفير الدعم الإقليمي والدولي لدفع عمليات الإصلاح السياسي والأمني في هذه الدول.